ماتيس يعود إلى الواجهة  بعد 70 عامًا من رحيله 

هنرى ماتيس
هنرى ماتيس

فى عام 1930، وجد هنرى ماتيس (1869-1954)، أحد جبابرة الفن فى القرن العشرين، نفسه مُحبَطًا إثر حبسة إبداعية. فى سن الستين، وفى نيس بفرنسا حيث قرر ماتيس أن يقيم لمدة ثلاثة عشر عامًا، بعد قضاء سنوات عمره الفنى فى باريس بصفته «الابن المُدهِش» لعالم الفن الطليعى فى المدينة، بمعزل عن ضجة المشهد الفنى بباريس، ركز ماتيس على رسم عارضات جذَّابات فى ستوديو داخلى، باستخدام أنماط زاهية وألوان براقة ينيرها مشهد البحر المتوسط، حين غلب على أسلوبه التكرار، تساءل بعض النقاد عما إذا كان الفنان الراديكالى قد فقد مهاراته، كما تساءل ماتيس ذاته، الذى كتب إلى ابنته مارجريت فى عام 1929: «لقد جلستُ عدة مرات لأرسُم، لكن أمام اللوحة أجدنى فى حيرة من أمرى أُطارِد الأفكار».


فى معرضٍ مثير بعنوان «ماتيس الثلاثينيات»، انتقل بين متحف فيلادلفيا للفنون ومتحف أورانجيرى فى باريس ومتحف ماتيس نيس، ظهر كيف تحرر ماتيس من فترة الركود التى أصابت عمله الفنى فى أواخر عشرينيات القرن الماضى، وتحول إلى فنان عادت إليه الحياة خلال فترة الثلاثينيات. هذا المعرض هو أول معرض كبير يبحث فى تطور ماتيس خلال تلك المرحلة من حياته الإبداعية الطويلة بتقديمه 143 عملاً. وفر المعرض فرصة نادرة لاستكشاف ماتيس أثناء مرور عمله بحالة من التدهور، وهو موضوع ذو صلة بحاضرنا اليوم، بعد معاناة كثير من الفنانين من العزلة والشلل الإبداعى أثناء جائحة كوفيد 19

اقرأ ايضاً| صلاح عيال يكتب : الفراكيــن


طرح المعرض سؤالًا عن كيف يمكن للفنان أن يواصل تطوير عمله الإبداعى بعد فترات الركود، وما شروط الحفاظ على حركته الإبداعية مدى الحياة، وجدت دراسة حديثة أجرتها منظمة أمريكيون من أجل الفنون أن 64٪ من إجمالى  20 ألف فنان شملهم الاستطلاع أكدوا تعرضهم لانخفاض إنتاجيتهم الإبداعية أثناء الوباء، وذكر أكثر من نصفهم أن تراجعهم كان بسبب التوتر والاكتئاب والقلق بشأن الوضع العالمى، انخفض الإنتاج الإبداعى لماتيس خلال بداية الكساد الاقتصادى العالمى، وصعود الفاشية فى أوروبا، وعلى الفور سيطر عليه شعور بأن نهجه فى الرسم يمر بأزمة حقيقية.


بدأ المعرض بإلقاء نظرة على فترة نيس، وتجسدها لوحته الحِسِّية «فتاة فى بنطالٍ رمادي» (1927)، موديل فاتنة فى سروال نسائى فحسب تتمدد على فراش أخضر، ومن ورائها جدار منقوش برسوم حمراء وصفراء لامعة. لوحة مذهلة، كغيرها من لوحات هذا القسم، ولكن بعد مغادرة القاعة المليئة بلوحات بديعة، نكتشف أثر وضع الثبات، بابتعاده عن العالم الفنى الباريسى الصاخب، بدا ماتيس قانعًا فى وقت متأخر من حياته الفنية، فتحول إلى الرسم فى الداخل، رسَمَ فى الاستوديو الداخلى بمنظور تقليدى، ومشهده المضاء بشمس البحر المتوسط.


يقول جوناثان إس فاينشتاين، الأستاذ بجامعة ييل وخبير الإبداع، مؤلف كتاب، «الإبداع فى سياقات أرحب»: «قد يساعد الثبات على الوقوع فى حبسة إبداعية”. بالنسبة للمبدع، يقول فينشتاين، الثبات يعنى أن يستخدم الفنان عقلية معينة، أو مجموعة من الأدوات، أو الموضوعات أو الأنماط، ثم يركز على هذه الطريقة فى رؤية العالم والإبداع، ويضيف «نفسيًا، قد يصعُب كسر الثبات لأن طريقة التفكير هذه قد تعززت فى ذهنك على مدى سنوات، وفى حالة ماتيس، نتحدث عن أسلوبه فى الرسم».


لاحظ النقاد ذلك فى حينه، بحلول عام 1927، نظروا إلى ماتيس على أنه «رسام الجوارى العجوز»، وفقًا لكتالوج المعرض، إذ وصفه أندريه بريتون بأنه ‘أسد عجوز مُحبِط ومُحبَط. علاوة على ذلك، تباطأ إنتاجه من الرسم، وبين عامى 1928 و1929، لم ينتج سوى أعمال قليلة مرسومة بالزيت على القماش، برغم مواصلته الرسم والنحت. بدا الأمر كما لو أن ماتيس قد تبنى آراء النقاد: كانت تلك ذروة تراجعه كرسام.


تقول جوليا كاميرون، التى ساعد كتابها «طريق الفنان»، الصادر عام 1992، آلاف المُبدعين حول العالم فى استعادة السيطرة على عملهم الإبداعى والعودة للمسار بعد المرور بفترات حبسة إبداعية، أنه حتى الفنانين المشاهير كماتيس يمكنهم التأثر بالنقد لدرجة المعاناة من فترات ركود.


كما ذكر أحد أشهر الفنانين المعاصرين فى العالم، والمُعارض السياسى الصينى آى ويوى، الذى ظهر مؤخرًا فى هايد بارك بلندن وهو يوزع أعمال فنية بالمجان لدعم اللاجئين العالميين، أنه مر بحبسات إبداعية مماثلة عند عودته من الولايات المتحدة إلى الصين فى عام 1993، وإن لم يتعرض للانتقادات التى واجهها ماتيس، بعد 10 سنوات من إنتاج صور فوتوغرافية بديعة أثناء دراسته للفنون فى نيويورك، وبعودته فى عام 1993، يقول: «صرتُ مُرتبكًا لعجزى عن خلق علاقة ملائمة مع الثقافة الصينية، كأنى كنت أعرفها ولا أعرفها فى الوقت ذاته. أردتُ فعلًا تجاوز تلك الحالة ولم أتوصل لطريقة».


اضطر آى للبقاء فى الصين لظروف العمل أثناء حبسته الإبداعية. ولكن فى نهاية عشرينيات القرن الماضى، وحين أدرك ماتيس أنه بحاجة إلى تجديد إبداعه، بدأ بالسفر أولاً إلى تاهيتى ثم إلى الولايات المتحدة.


تقول الفنانة التركيبية التجريدية الأمريكية جودى بفاف، التى تأثرت بشدة بماتيس عندما بدأت الرسم فى السبعينيات، أن السفر يساعد العديد من الفنانين على تنشيط الإبداع عند الشعور بالعجز عن تقديم أى شىء، قالت الحائزة على جائزة مؤسسة ماك آرثر لبى بى سى الثقافية: «يحفزنى السفر. حين أتواجد فى مكان جديد، يتجسد ذلك فى عملى».


اكتشاف أسلوب جديد
بعد جولة حول الولايات المتحدة بالقطار، ذهب ماتيس فى خريف عام 1930 إلى فيلادلفيا للقاء مقتنى الأعمال الفنية، ألبرت بارنز، فى مؤسسته التعليمية بإحدى ضواحى المدينة. هناك، واجه بارنز الفنان المُسِن بخفة بأن لوحاته الأخيرة الجميلة كانت حِسّية وجذابة، لكنها أقل قيمة بعض الشىء مقارنة بالأعمال السابقة، وفقًا لسينثيا كارولان، المحاضرة فى مؤسسة بارنز، القائمة الآن فى قلب فيلادلفيا، عرض بارنز على ماتيس مكافأة لرسم لوحة تناسب الأقواس الضخمة فوق نوافذ معرضه الجديد. قَبِل ماتيس، وواجه بدوره تحديًا هائلاً. أولاً، لم يرسم لوحة بهذا الحجم أبدًا، كما تشير كارولان: كانت مساحة الجدارية بعرض 13.7 مترًا، والمطلوب رسم ثلاث لوحات منفصلة فوق ثلاث نوافذ. ثانيًا، لم يضطر أبدًا إلى تطويع لوحة لتُناسب أبعادًا معماريةً دقيقة، وهو أمر أكثر تعقيدًا من الرسم على قماش مُثَبت على حامل متحرك.


ليبدأ المشروع، رجع ماتيس إلى اللوحة التى رسمها فى عام 1910، الرقصة II، وهى قطعة شقيقة للوحة الرقصة I، التى رسمها فى عام 1909. تمثل لوحة الرقصة الأولى إحدى المنعطفات المبكرة لماتيس نحو نهج أكثر بساطة فى الرسم باستخدام العناصر الأساسية للخط واللون والشكل، كرد فعل على ظهور التصوير الفوتوغرافي، الذى بإمكانه جعل التفاصيل أكثر واقعية بكثير مما يمكن للرسام فِعله، كانت الرقصة  I محاولة لدفع فن الرسم نحو نقل المشاعر من خلال المرئيات الأساسية بدلاً من التنافس مع قدرة اللقطة الفوتوغرافية على تصوير الواقع الدقيق.


توضح الصور والمخططات والاسكتشات الأولية فى المعرض كيفية تعامل ماتيس مع هذه التحديات. لرسم اللوحة الجدارية، استأجر مرآبًا كبيرًا بما يكفى ليتمكن من العمل على اللوحات الضخمة. بحثًا عن نقطة انطلاق لعمله على اللوحة، تأمل عمله السابق أولًا ثم قرر إعادة تكوين مجموعة من الراقصين من لوحته المؤثرة، «متعة الحياة» 1906، التى كانت الأساس للوحة الرقصة II، وفقًا لكارولان، انطلق أولاً من رسوم صغيرة ثم واصل تمديدها لتلائم مساحة القماش، لكن ظلت النسب غير مُوفقة. كان بحاجة إلى اكتشاف طريقة للرسم على مساحة عريضة يصعُب محو الرسم أو الطلاء من عليها لإجراء أى تعديلات.


ثم أدرك ماتيس أن أدواته العادية من الدهانات الزيتية والفرشاة لا يمكنها تجسيد رؤيته، فاكتشف أدوات جديدة. بدأ باستخدام عصا طويلة من الخيزران متصلة بقلم رصاص كأداة لرسم أشكال الراقصين. بعد ذلك، على مدار أشهر، حاول تقطيع قصاصات كبيرة من الورق الملون مسبقًا وتثبيتها، مما ساعد على ضبط أبعاد اللوحة. لأول مرة، استخدم ماتيس المقص كأداة فنية، مُستهِلًا عصر قصاصاته الورقية الشهيرة. بدأ أيضًا فى استخدام الكاميرا لتوثيق عمليته حتى يتمكن من مقارنة التطورات من يوم لآخر.


قضى ماتيس حوالى ثلاث سنوات لينتهى من رسم «الرقصة»، شهد خلالها عودة إلى أسلوب الحداثة، وخلق تكوين ديناميكى يصور الأجساد التى تبدو كأنها تقفز من الحقول الوردية والزرقاء منطلقة فى الفراغ المجرد، يقول آى ويوي: «استطاع ماتيس تحويل مسار عمله الإبداعى بتغيير بيئة العمل وأداته الفنية»، مشيرًا إلى أن معظم الفنانين عادة ما يعملون فى الاتجاه المعاكس، ويستخدمون تقنياتهم المعتادة فى مواضيع مختلفة. يضيف آي: «استخدم ماتيس أساليب متنوعة بطرق ثورية»، وأثناء محاولة إتقان هذه الأساليب، ظهرت لغة فنية سمحت للفنان الفرنسى القدير بالدخول فى حالة إبداع حرة نسبيًا.


كشفت الأقسام الأخيرة من المعرض أسلوب ماتيس الجديد، الذى يستخلص اللوحات وصولاً إلى الخطوط النقية والألوان الجريئة. على سبيل المثال، فى لوحة «فتاة الأصفر» فى عام 1937، لم يعد عقل ماتيس مقتصراً على أفكار المنظور والتصوير الداخلى، إذ تتميز اللوحة بتكوينات مسطحة مع خط أسود داخل كتل زاهية من الأصفر والرمادى والأحمر.

كما تعكس لوحة «امرأة ترتدى الأزرق» المُشرقة المزخرفة (1937) لغة ماتيس الفنية المُستجدة، مع التركيز على الصفاء المتوازن بين الخطوط المجردة وتنقُل الأنماط. مع مساعدته الجديدة والموديل، ليديا ديليكتوريسكيّا، اتقد نشاط ماتيس وتراجع اهتمامه بالمنظور أمام اهتمامه بكيفية تداخُل الفراغ بين الكائنات والأنماط. عاد إلى الطبيعة الصامتة وتصوير الموديل فى لوحات تهدف إلى إثارة خالصة للمشاعر، غير تلك المتأثرة بالمراجعات السلبية التى حاصرته خلال فترات الركود.


حين احتجزت السلطات الصينية آى ويوى لحوالى ثلاثة أشهر فى عام 2011، لم يكن لديه أى وسيلة للإبداع الفنى، كما يقول. لكنه تحدى عقله لفهم مَن سجنوه والنظام الذى يعملون فى ظله، وتمكن من الخروج بقوة وإدراك جديدين لما يكون عليه المبدع. يقول: «كان السجن بالنسبة لى تدريب خاص للغة، واكتشاف طرق جديدة للتعبير. الحرية التى حصلت عليها هناك لم تكن لتتشكل إذا لم أُسجَن بالأساس».


مِثل آى ويوي، من خلال العمل على لوحته «الرقصة»، اخترق ماتيس الحَجْر المضروب حول عقله ليخرج على الضفة الأخرى بأسلوب ثورى جديد للتعبير الإبداعى، يتركز على الخطوط البسيطة والألوان الجريئة، خروجًا كاملًا عن الواقعية، ومخاطبة مشاعره الخاصة ومشاعر جمهوره أيضًا. نتج ابتكار أسلوب القصاصات من عملية إبداعية عميقة استمر تأثيرها على الفنانين وجذب الجماهير حتى الآن.


لقد أثر تحوله من الرسم على القماش إلى استخدام قصاصات الورق فى لوحة «الرقصة» بشكل عميق على أجيال من الفنانين المعاصرين كرومير بيردن، وروبرت مذرويل، وجودى بفاف. فى النهاية، يثبت المعرض أن ماتيس ارتقى إلى مستوى عبارته الشهيرة: «لا ينبغى أن يصير الفنان أسيرًا لنفسه، أو أسيرًا لأسلوبه، أو أسيرًا لشهرته، أو أسيرًا لنجاحه».